من كتاب ''إسناد ناري على واد هلال المغامرة المعاشة'' للطيار بيير كلوسترمان.
يعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب التي صدرت تصف حرب الجزائر، وبخاصة على
الأوراس النمامشة. مؤلفه طيار حارب بالحرب العالمية الثانية في سماء
أوروبا وبالفيتنام، يقول عنه الجنرال ديغول: ''هو ضابط سام، طيار مطارد
مؤثر، حاصل على أوسمة لامعة.. تطوع وهو ضابط احتياط للخدمة في الجزائر في
إطار عمليات (حفظ النظام)، كان دائما يتطوع لخوض أكثر المعارك خطورة، حيث
كانت طائرته في عدة مرات تصاب بطلقات الخارجين على القانون''.
عمل بالجزائر سنتي 1956 و.1957 ركز في معاركه على ترديد اسم المجاهد
الكبير الأزهر شريّط وعلى مقر قيادته في شڤة اليهودي بواد هلال، ويسمي
كتابه بهذا الوادي. يصف جبال النمامشة بإعجاب يشوبه خوف ورعب. يتبين أن
المؤلف أديب له أسلوب شاعري، تحكمه مشاعر إنسانية تدفعه إلى أن يحترم
ويقدر خصمه.. ويبدو من خلال تصدر كتابه بنص لألبير كامو أنه لا يؤمن
بالحروب، ونص كامو: ''يكفي أن تقود الحركة إلى الموت لكي تلمس نوعا من
العظمة بالرجال، والتي تسمى العبث..''.
ولنورد مقتطفات من الكتاب:
يقول: ''يقدر الذين قتلوا من شباب الخدمة الوطنية الفرنسية في السنتين
اللتين عملتُ فيهما بالجزائر بثلاثة عشر ألف (13000) شاب قتلوا في هذه
العمليات العسكرية العقيمة، الغامضة، والغير المشجعة''. (صفحة7).
يصف وصوله لمنطقة أوراس النمامشة فيقول: ''كان الجنرال أوكسيفان Uxevent
الواقف في ساحة المدينة الصغيرة خنشلة يقدم لنا نبذة عن عمليات الغد، كان
دورفال (الاسم الحربي لكلوسترمان) يستمع بعناية، لأن واد هلال وشڤة
اليهودي ـ مقر قيادة الأزهر شريط ـ كانت دائما أمرا عظيما يعبر عن حرب
حقيقية وليس عمليات (الحفاظ على النظام). كان الجنرال ذو العينين
المصنوعتين من الصلب، والشخصية الحديدية يقود منطقة أوراس النمامشة،
فمنطقته هذه كانت دائما جهنمية، في مواجهة مجموعات الفلاڤة الأكثر تنظيما،
والأفضل تسلحا بالجزائر كلها. ففي أوراس النمامشة ولدت الثورة، وفيها
اكتسبت صلابتها، إن التحدث عن التربيع والحصار التقليدي عبارة عن مسخرة
مرة وسط هذه الطبيعة المرعبة، المشوية بشمس لا ترحم الفرق الآتية من
فرنسا، في جبال النمامشة الوعول نمور..''.
''حاولت قيادة أوراس النمامشة (الفرنسية) تفجير الدمّلة بواسطة ثلاث أو
أربع عمليات واسعة، فشلت كلها بمجرد سقوط الليل مع تكبدها لخسائر جسيمة.
لا تنفع المدفعية ضد هذه المتاريس الطبيعية، التجاويف تحمي الخارجين عن
القانون من قذائف المورتييه. سكبت الطائرات مئات الأطنان من القنابل ذات
الوزن الثقيل، المدرعات لا تفيد لأنها لا تستطيع النزول إلى عمق الوادي،
لقد جربنا كل الوسائل دون جدوى. إن أفضل قناصيهم المترصدين برشاشاتهم
صاروا متخصصين بنجاح في التصدي لطائراتنا''.
الإعجاب بواد هلال لم يقتصر على الرجال بل شمل النساء، فزوجة الجنرال
أوكسيفان َُّمًّمٍّص تطلب من كلوسترمان أن يأخذها بطائرته لرؤية واد هلال
المشهور التي كثيرا ما سمعت زوجها يهذي به، ويلبي لها رغبتها خفية على
زوجها..
يقول واصفا واد هلال: ''كانت جلالة شعاب واد هلال تقطع نفس دورفال (الاسم
الحربي له)، فلا يوجد مكان حلّق فوقه يشبه هذه الطبيعة التي كوتها الشمس،
وعذبتها الرياح ونحتها الطوفان، إنه لم يشاهد طبيعة جهنمية كهذه: فعلى
امتداد القرون شق الوادي بوحشية في جسد الصخر حنجرة وعرة عميقة بثمانمائة
متر بواسطة دوران وعودة دوران. وعلى بعد عشرة كيلومترات شمالي الجرف كسر
كوعُ تدفق المياه الصخرَ، فرمى على الضفة كتلا جبارة من الصخر أصغرها
يساوي حجم قوس النصر بباريس، وفي الأعماق شق التيار الجارف ممرات متتالية
وأروقة ضخمة تضيع كلها في صلب (بوجويب). إنها حصن مشاد بعنف، مرصوص بعضها
على بعض، مخترقة بأبرج مراقبة، ومسننة بمتاريس طبيعية، ومنخورة بستائر
جدارية. إنها هذيان عسكرية دفاعية بزواياها المنيعة، بفتحات رماة السهام،
وبأخاديدها المنحدرة المزروعة بالحصى الأبيض. كل ممر عبارة عن ترسانة تأوي
كل شيء: السلاح والذخائر، المغارات التي بها مهاجع الجنود، وقاعات
التمريض، وقطعان الماعز والأغنام، أما الماء، فهو متوفر في سائر المواسم..
تشاهد يوميا طائرات الاستكشاف دخان المشوي الذي ينضجه الخارجون عن القانون
دون محاولة إخفائه.. إنها للفلاڤة قلاع دائمة، وقواعد انطلاق للهجمات،
ومركز اجتماع قادة الولايات، ومرسى راحة عمليات رجال الأزهر شريّط الذين
يسيطرون على الدعامات المتاخمة للصحراء والممتدة من بير العاتر وحتى
تبسّة..''. (صفحات 173 ,171 ,170).
ويستمر الطيار كلوسترمان فيقول: ''في هذه المرة (ويقصد معركة الجرف) وضعت
القيادة العامة كل وزنها، فالقائد الكبير تنقل بنفسه من مدينة الجزائر إلى
هنا. عمليا، كل القوات المتوفرة في أوراس النمامشة، وتبسة، وأريس، ومن
خنشلة إلى نڤرين هرعت في الليل للمحاصرة، جاءت سائر الطائرات العمودية من
مطار سطيف وتلاغمة وحطت بالجرف، وعلى الساعة الثامنة صباحا، آلاف مؤلفة مع
مدفعيتهم نصبوا في القمم المسيطرة على الوادي، وأعلنت حالة الطوارئ
بتلاغمة وباتنة وتبسة من ميسترال، وأسراب الإسناد الخفيفة، و47. دورفال
(الاسم الحربي لكلوسترمان) يعرف جيدا أن أي حركة من حركاته في الجو مراقبة
من الفلاڤة المخفيين.. لكنهم على غير عادتهم لم تبدر منهم أية حركة حتى
الآن، ولم يطلقوا طلقة واحدة حتى الساعة العاشرة.. وفجأة، تنفجر المعركة:
كلاك.. كلاك.. وخفض رأسه لاشعوريا، لقد ثقب زجاج قمرة الطيار ثقبين وتمزق
المعدن.
ـ مونكوماندون، أصبت من عدة أماكن..
ـ ألو، هنا الباز الأحمر، هنا ليو، لقد أصابني الأوباش، أنا داخل إلى تبسة.
سد هائل من المدفعية يحاصر شڤة اليهودي حيث مقر قيادة الأزهر شريّط، يرتفع
الغبار الذي تتخلله القذائف الملتهبة، هذا يكلف كثيرا دافعي الضرائب في
فرنسا، ولا يضايق الفلاڤة الذين هم الآن ينامون في قيلولتهم بملاجئهم
الباردة ينتظرون الوقت المناسب للرد.. طائرة عمودية تخلي المصابين إلى
المستشفى الميداني بالمزرعة..
أُسقط الملازم جوليان، حاولت عمودية التقاطه.. الغليان يعم شڤة اليهودي،
لقد أصيبت لنا في ساعتين سبع طائرات. (ويعلق المؤلف في الهامش فيقول: في
1957 تصاب لنا شهريا 50 طائرة، وفي شهر يناير 1958 أصيبت لنا 85 طائرة،
وفي شهر فبراير 116 طائرة. وهذا تأكيد على أن المجاهدين لا يبالغون..).
وانطلقت نيران الفلاڤة الذين كانوا ينتظرون منذ الفجر هذا الوقت، وكانت نيرانا جهنمية..
في هذه اللحظة، تفتت زجاج العمودية إلى ألف جزيء لتهوي كسهم ملتهب.. حاول
الطيار النداء بالراديو، ولكن الدم الكامن في حنجرته خنقه، حاول أن يبصق
أو ينفخ ليسلّك منخريه، لكنه لم يستطع''. (صفحات : 201 ,197 ,195 ,190
,187 ,186 ,185 ,181).
ويصف الطيار كلوسترمان آخر طلعاته على جبال النمامشة في آخر الكتاب فيقول:
''بعد الإقلاع من تبسة، مر دورفال من خلال فجوة الدكّان، فوق قصعة ثليجان،
وارتفع حتى ثلاثة آلاف متر، باحثا عن هواء بارد.. تحت عينيه ترتفع جبال
النمامشة على أعمدة متتالية.. هذه الكتلة الجبلية الرهيبة ذات التضاريس
المجوفة البارزة، المزروعة بكثافة بشبكات من الأعشاب المعمرة الدموية
اللون، وبتشابك انقصافاتها الجبلية المذهلة العجيبة التي تهز فكرة الإلمام
بمسلسل الأبعاد.. هذه الهضبة العظيمة الخالية من الترحيب والاستضافة،
المطوي سطحها قليلا، المرتكزة على الكتلة الخضراء للأوراس، والمسيطرة
جنوبا بارتفاع ألف متر قائمة عموديا على الصحراء الممتدة بحماداتها إلى ما
بعد الأفق، والمنغمسة في ضباب جاف''. (صفحة 193).
واد هلال الذي وصفه هذا الطيار الفرنسي وصفا رائعا، هو واد يستقبل مياه
الأمطار والثلوج النازلة على السفوح الجنوبية للأطلس الجنوبي الشرقي، ويصب
في الصحراء فيغذي البحيرة الجوفية الألبية الجبارة. لا شبيه له بالعالم.
في أمريكا، يوجد شبيه له لكن أقل منه رهبة وغرابة وعظمة، وهو كانيون
الكبير ََُف لَفْا كونت له ولاية لاس فيغاس مطارا تنطلق منه طائرات صغيرة
محملة بالسياح يحلقون فوقه، وقد حلقت فوقه ووجدته أقل رهبة وروعة من واد
هلال وفق وصف كلوسترمان والصور الجوية التي أخذها له. الدولة الجزائرية لم
تهتم به، بل ولا يذكر حتى في دروس الجغرافيا. هذا الوادي هو الذي قال فيه
ضابط فرنسي: ''إذا قدر لديان بيان فو أن تقع في الجزائر، فواد هلال هو
مكانها''..