الأصل السابع: حق الأمة في مناقشة أولي الأمر ومحاسبتهم على أعمالهم،
وحملهم على ما تراه هي لا ما يرونه هم. فالكلمة الأخيرة لها ولا لهم.
الأصل الثامن: على من يتولى أمرا من أمور الأمة أن يبين لها الخطة التي
تسير عليها، ليكونوا على بصيرة، ويكون سائرا في تلك الخطة عن رضى الأمة.
إذ ليس له أن يسير على ما يرضيه، وإنما عليه أن يسير بهم فيما يرضيهم.
الأصل التاسع: الأمة تحكم بالقانون الذي رضيته لنفسها، وعرفت فيه فائدتها،
وما الولاة إلا منفذون لإرادتها..
والملاحظ هنا أن ابن باديس يكتب على تنفيذ القانون وليس تنفيذ الشريعة، أي
أنه يفصل بين السلطة التنفيذية التي تنفذ القانون الذي أسنته السلطة
التشريعية.
الأصل العاشر: الناس كلهم أمام القانون سواء، لا فرق بين قويهم وضعيفهم..
وهنا وجب التأكيد والإصرار على ما كتبه ابن باديس الخاص بالعصمة بعد
الرسول (ص)، أي ليس هناك إنسان معصوم بعد النبي (ص)، لأنه جاء في القرآن،
وبالضبط في الآية 67 سورة المائدة التي تنص على ما يلي: ''يا أيها الرسول
بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من
الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين''. وهذه الآية تدلنا أن المعصوم
الوحيد من الأخطاء هو النبي (ص)، وليس غيره. أما بقية الناس فهم خطاؤون.
وجعل الله لذلك قاعدة التوبة والعفو للذين يرتكبون السوء بجهالة وليس
المتعمد كما يظن علماء الجهل. والآيات الدالة هي الآية 17 من سورة النساء:
''إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب
فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما''، والآية 54 من سورة
الأنعام: ''... من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فـإنه غفور
رحيم''، والآية 119 من سورة النحل: ''ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة
ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم''.
وواصل الإبراهيمي الرسالة الباديسية الخاصة بالانتخابات وتمثيل الأمة.
ونشر نصا صريحا موجها للأعضاء المسلمين بالمجلس الجزائري في العدد 33 من
جريدة ''البصائر'' لسنة ,1948 يوضح فيها الفرق بين عضو بالمجلس ونائب، حيث
يكتب ما يلي: ''النيابة وكالة عن الجمهور، والشرط في الموكل أن يكون حرا
مختارا مطلق التصرف... إن أقواما قبلكم وصلوا إلى ما وصلتم، وارتقوا على
أكتاف الأمة إلى كراسي النيابة ولكنهم خانوا العهد وأضاعوا الحقوق، فسجل
عليهم التاريخ خزي الأبد وكلة المقت..''.
ويواصل الدفاع عن مبادئ الجمهورية الديمقراطية وأساسها الانتخاب في عدة
نصوص نشرت في ''البصائر''، بعد ما تقدم بها للسلطات الاستعمارية التي نصبت
لجنة إصلاح شؤون الجزائريين المسلمين، بعد قرار من الجنرال ديغول في نهاية
1943 . وقدم الإبراهيمي المذكرة الأولى في بداية جانفي ,1944 أهم ما جاء
من المطالب هي:
1) استقلال القضاء الإسلامي عن القضاء الاستعماري.
2) فصل الدين عن الحكومة وتأسيس مجلس إسلامي أعلى منتخب من طرف الجمعيات الدينية.
3) تأسيس حكومة جزائرية مسؤولة أمام برلمان جزائري.
أما المذكرة الثانية، فقدمت باسم الجمعية في أوت ,1944 يؤكد فيها على فصل
الدين عن الحكومة بتأسيس مجلس إسلامي أعلى، منتخب من طرف الجمعيات
الدينية، ومسؤولا أمامها، حيث يقدم الأعمال التي كلف بها من طرف المؤتمر
الإسلامي الذي يجمع كل الجمعيات الدينية التي تنتخب على أعضاء المجلس.
وتتطرق المذكرة إلى استقلالية القضاء الإسلامي، حيث يتم تأسيس مجلس أعلى
للقضاء منتخب من طرف القضاة، مهامه هي اختيار القضاة وتسميتهم ومراقبتهم
والنظر في سلوكهم وتحديد عقوباتهم. وتطرق للموضوع عدة مرات في جريدة
''البصائر''، أذكر منها العدد 108 لسنة ,1950 العدد 109 من نفس السنة،
العدد 58 من سنة ,1948 العدد 122 لسنة .1950
وجدد موقف الجمعية في فكر الإصلاح كما جاء به محمد عبده وشكيب أرسلان
ومحمد رضا وجمال الدين الأفغاني وهو معارضة النظام الملكي وإسقاطه مع
حلفائه من رجال الدين المدافعين عنه. ويكتب، في هذا الصدد، ما يلي: ''ففي
الوقت الذي كان فيه جمال الدين الأفغاني يضع أساس الوطنية الإسلامية على
صخرة الإسلام الصحيح، ويهيب بالمسلمين أن ينفضوا أيديهم من ملوكهم
ورؤسائهم وفقهائهم، لأنهم أصل بلائهم وشقائهم، وفي الوقت الذي كان محمد
عبده يطيل ذلك البناء ويعليه...''. وهذا موقف واضح من النظام الملكي وما
يشبهه من نظام السلطنة والإمامة والخلافة، وتأييد للنظام الجمهوري
الديمقراطي البرلماني، حيث يكتب، في هذا المجال على دور البرلمان وهو
محاسبة الحكومة وإسقاطها إن اقتضى الأمر، في العدد 176 من ''البصائر''
لسنة 1951 ما يلي: ''إن الأصل في هذا المجالس أنها تصارع الحكومات،
وتناقشها الحساب، وتردها إلى الصواب، وتحارب النزعات الفردية، كل ذلك
لأنها تأوي من الأمة إلى ركن شديد، أما المجلس الجزائري فـإن شأنه غريب،
وأمره عجيب''. وفي نص آخر نشر في العدد 159 لسنة 1951 من جريدة
''البصائر''، يؤكد الإبراهيمي أن ''الشعوب في هذا الزمان هي مصدر السلطان،
وهي التي تقيم الحكومات وتسقطها، وهي التي تبني العروش وتقوضها...''. وهذا
مبدأ الجمهورية الديمقراطية الذي يخول للشعب وحده السلطة المطلقة والسيادة
الكاملة التي يخولها لممثليه في مدة معينة عن طريق الاقتراع الحر والسري
والجماعي، الخ من شروط نزاهته. وكل هذه الأفكار هي لب الإيمان الصحيح، حيث
أن الله ربط الفساد والذل بالملوك، كما جاء ذلك واضحا، جليا، سهلا، في
الآية 34 من سورة النمل: ''قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا
أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون''.
كل هذه الأدلة تؤكد أن الفكر الإصلاحي كما دافع عنه كل من بن باديس
والإبراهيمي هو معادي للخلافة والإمامة والملكية والسلطنة، وكل حكم
استبدادي مبني على النزعة الفردية، ومؤيد للنظام الديمقراطي البرلماني،
حيث أن السلطات الثلاثة مفصولة عن بعضها البعض، وأن الحكومة أو السلطة
التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية، كما أن هذا الحكم الذي نظر له كل
من بن باديس والإبراهيمي، هو النظام الجمهوري الديمقراطي الذي يتضمن فصل
الدين عن الحكومة، ولو كانت إسلامية كما يوضحه ابن باديس من التجارب
المصرية والتركية، حيث يكتب في ''الشهاب'' لشهر ماي 1938 تحت عنوان
''الخلافة أم جماعة المسلمين'' ما يلي: ''فعلى الأمم الإسلامية جمعاء أن
تسعى لتكون هذه الجماعة من أنفسها، بعيدة كل البعد عن السياسة وتدخل
الحكومات، لا الحكومات الإسلامية ولا غيرها''.
وليومنا هذا، لم يتحقق شيء في جزائر الاستقلال، حيث أن المجلس الإسلامي
الأعلى لا يزال أعضاؤه معينين من طرف السلطة التنفيذية كما كان الحال
أثناء المرحلة الاستعمارية. وكل هذه مطالب جمعية العلماء المسلمين لم نسمع
بها في الاستقلال، وخاصة في بداية الانفتاح السياسي، حيث سمعنا وقرأنا
أشياء أخرى، غير الفكر الإصلاحي الجزائري الأصيل. وتلك الأفكار هي أفكار
الطرقية الجديدة. ولو عرف الجزائريون الفكر الإصلاحي في أصله وليس من طرف
تلاميذ الجمعية ذوي العلم القليل كما يشهد عليه الإبراهيمي نفسه، كما أقدم
البرهان على ذلك لاحقا. واندثر العلم القليل وانقرض أمام عاصفة الفكر
الطرقي الجديد، المتجدد، المغلف في ثوب الإسلام لاصطياد النفوس والكيد
بالأمة في حرب لم تنته بعد.
انتقاد الوهابية وعلماء الأزهر
انتقد ابن باديس في كتاباته كلا من منهج الوهابية في الإصلاح وعلماء
الأزهر الذين اختصوا في الضلالة والانحراف وأتباع الطرقية والتشهير بها.
وجاء انتقاد بن باديس للمنهج الوهابي في نص نشر في جريدة ''النجاح'' لشهر
نوفمبر ,1924 حيث بين غلطاتهم وأسبابها وعواقبها وهي انعزالهم وفشلهم في
إصلاحهم الذي يريدون إدخاله على مجتمعهم. ويكتب ابن باديس في هذا المجال
ما يلي: ''قام الوهابيون لتحقيق هذه الغاية بحماس وشدة وجهل في كثير منهم،
فارتكبوا في سبيلها أمورا نفرت منهم النفوس. وأتى جهالهم شنائع كانت من
النكارة بمكان، ووجدها أضدادهم سلاحا قويا في تشويه سمعتهم إلى اليوم،
وأسخطت عليهم العالم الإسلامي كله، فكانت الخيبة تصيبهم من جراء سلوكهم
القاسي.. إن الدعوة إلى الحق لا تنجح إلا إذا كانت كما أمر الله تعالى،
بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. ولم تكن في الوهابيين
كفاءة للقيام بتلك الدعوة العظيمة على هاته الطريقة الحكيمة فخابوا، وبقيت
غايتهم مقصورة عليهم.. إنما تنكر عليهم الشدة والتسرع في نشر الدعوة وما
فعله جهالهم''.
وكل من يدرس ما كتبه بن باديس في حق الوهابيين لا يزال قائما ليومنا هذا،
لأن الفشل والخيبة والهزيمة هي النتيجة الحتمية لكل من أراد استعمال العنف
والإكراه لنشر أفكاره. وكما يبرزه ابن باديس، هناك تناقض بين الغاية
والوسيلة، أي أنهما غير متجانستين، لأن الوهابيين هم الذين تسببوا في
الهزيمة وليس غيرهم، لأنهم تم عزلهم في العالم الإسلامي كله وحتى في جزيرة
العرب. وينشر رأيه في هذا الموضوع في العددين179 و180 من جريدة
''النجاح''، في عام 1924 ما يلي: ''قتل زعيمهم ابن سعود بالأستانة بعد ما
تفرقت جنوده وشرد آله، فانزوى الوهابيون من يومئذ بنجد واختفت أخبارهم عن
العالم... قام الوهابيون في حروبهم بالقرن الماضي لنشر دعوة دينية إصلاحية
فخابوا، فانكمشوا بنجد..''.
وبعد هزيمتهم التاريخية في الإصلاح، انعزل الوهابيون في قطر واحد، ما يعرف
اليوم بالمملكة العربية السعودية، نسبة إلى آل سعود، الأسرة المالكة
والحاكمة والمتحالفة مع الوهابية وهي مرجعيتها في الحكم والدين معا، بعدما
تحولت إلى طرقية ترفض الإصلاح وتمجد التقاليد والنقل في منهجها، أي أنها
ضد التجديد في الفكر الإسلامي.
وكما ذكرنا سالفا، فـإن الفكر الإصلاحي هو مناهضة النظام الملكي، ونظام
الخلافة والإمامة والسلطنة وكل نظام حكم مبني على الوراثة، وهو عكس الفكر
الوهابي الذي يقدس النظام الملكي والخلافة، أي أنه فكر في خدمة سلطة
الاستبداد والطغاة. وانتشر الفكر الوهابي في عدة أقطار عربية وإسلامية تحت
شعار ''الصحوة الإسلامية''، وقاد هذا الانتشار الدولار الأمريكي وزعماء
الطرقية الجدد منهم سعوديون ومصريون مشهورون. وكان الفشل هو النتيجة
لعملهم مع تخريب مجتمعاتهم وإفلاس اقتصادياتهم، لأنهم قاموا بتقليد منهج
الوهابيين الفاشل وجددوا فشله مرة أخرى. وسأعود للموضوع مرة أخرى، لأكشف
الصراع التاريخي بين الفكر الإصلاحي وفكر الطرقية وهو الفكر التقليدي
الناقل للفساد في العبادات والمعاملات والدين. وهنا أطرح السؤال التالي:
من له الشجاعة والعمل والكفاءة لنقد طرقية السعودية المتمثلة في الطرقية
الوهابية؟ لا أحد في الجزائر لأنهم من أتباع الطرقية الوهابية بعد ما قضوا
على الفكر الإصلاحي ومحوا آثاره، واستبدلوه بالطرقية الوهابية مقابل
دولارات أمريكية ومناصب في سلطة الاستبداد.