هرمنـــا..!
بقلم : حفيظ دراجي
منذ الخامس من جويلية الماضي بدأ العد التنازلي للذكرى الخمسين لاسترجاع السيادة الوطنية ومرور نصف قرن على استقلال الجزائر، وبدأ التحضير لإقامة الحفلات والأعراس، وراح الجميع يلهث وراء تقاسم ميزانية الاحتفالات التي ستكون غير مسبوقة في تاريخ الجزائر...
ونسينا تقييم المشوار وتصحيح الأخطاء وكتابة التاريخ، والتحضير لتسليم المشعل على كل المستويات بطريقة علمية وسلمية وحضارية دون عنف أو حقد أو كراهية، ونسينا أن نصف قرن من الزمن في حياة الشعوب والأمم هو مشوار ومسار يجب الوقوف عنده والانتقال بعده من الحرية إلى التحرر من الوصاية، ومن شرعية الثورة إلى شرعية الكفاءة، ومن الجهوية إلى الوطنية، دون مزايدة من أي كان ومهما كان..
لقد هرمنا نحن جيل الاستقلال سعيا من أجل جزائر ما بعد الشرعية الثورية والتاريخية دون جدوى، وهرمنا من أجل رؤية أبنائنا كلهم دون استثناء وهم ينعمون بالحرية والديمقراطية وخيرات الوطن، ويتحررون من الأفكار والسياسات الفاشلة التي تجاوزها الزمن، وهرمنا بحثا عن مشروع مجتمع حديث ومتفتح تصنعه طبقة سياسية متسامحة، وعن سلطاتٍ تشريعية وتنفيذية وقضائية شرعية، وحركة جمعوية ومجتمع مدني متحرر، وشعب مجند ومتفائل ومسلح بحب الوطن وتقديس الجهد والعمل وليس الأشخاص كما نفعل اليوم!!
هرمنا من أجل لحظة تاريخية نحترم فيها الإرادة الشعبية والكفاءة العلمية والكرامة الإنسانية، ويلتزم فيها الجميع بسلطة القانون وسيادة الشعب، واحترام وتقدير النساء والرجال الذين ضحوا على مدى خمسين عاما من أجل بناء الجزائر وحمايتها من الإرهاب والخراب والفساد، بنفس القدر من التضحيات التي قدمها أجدادنا وآباؤنا.
هرمنا وسئمنا من جيل قام بواجبه في عهد الاستعمار وبداية الاستقلال، ويعِدُ كل مرة بتسليم المشعل ولكنه لم يفعل على مدى خمسين سنة حتى احترق بين يديه، رغم الهزات والنكسات، ورغم الخيبات والفشل في عديد المهمات، ورغم إدراكه بأن الزمن تجاوزه، ووعيه بأن رياح التغيير تهدده وتهدد استقرار الوطن..
هرمنا وتعبنا من الوعود الكاذبة التي سئم منها الشعب، وهرمنا وتعبنا من الرشوة المتفشية في كل المجالات حتى دخلت قاموس كل المعاملات حتى في الأوساط الشعبية، وتعبنا من الكذب والنفاق والغيرة والحسد وكل ممارسات أعداء النجاح الذين يعيثون فسادا أمام أنظار الجميع وأمام أنظار المؤسسات القضائية والتنفيذية..
هرمنا من أجل رؤية الجزائر في المكانة التي تستحقها وبالكيفية التي نحلم بها وضحى من أجلها آباؤنا.. ورؤية الجزائر في مستوى ثرواتها وخيراتها وقدرات أبنائها الصابرين الصامدين الذين أكدوا التزامهم ووعيهم وحبهم لوطنهم ولم يغرر بهم.
هرمنا وتعبنا في مجالات السياسة والثقافة والرياضة والسياحة والتربية والتعليم والتكوين والصحة؛ بحثا عن المشروع المناسب، وسئمنا من الجمود الذي أصاب كل القطاعات وكأننا لا نملك الكفاءات والإمكانات والخيارات، ولا نملك الأفكار والحلول لمشاكلنا وهمومنا..
هرمنا وتعبنا كثيرا وصبرنا طويلا وبلغ مواليد الاستقلال نصف قرن من العمر دون تجسيد طموحاتهم وآمالهم وتطلعاتهم نحو جزائر عصرية لكل الجزائريين وليس لفئة أو جهة واحدة.. جزائر لا يقصى فيها أحد بسبب أفكاره وانتماءاته.. جزائر تتكافأ فيها الفرص لكل أبنائها، ولا تتوقف فيها الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية مهما كانت الأسباب.. جزائر تنمي ثرواتها وتوزع خيراتها على الشعب، لا أن تملأ خزائنها وتدع شعبها تعيسا: فقيره يزداد فقرا، ومريضه يموت ألما..
وفوق كل هذا وذاك، هرمنا وتعبنا وكرهنا من الكلام والكتابة والتنديد بكل الآفات والتصرفات والتجاوزات في حق الوطن والشعب دون حسيب أو رقيب، وكأن الجزائر ملكية خاصة لمن يحكمون وبعدهم الطوفان..
الرئيسية
