يرى بعض الباحثين أن الرجوع الأوروبي، في أواخر القرون الوسطى، إلى
الزمن الإغريقي خاصة ؛ كان بسبب الاتصال التاريخي، الذي يربط التاريخ
الأوروبي بتاريخ الإغريق، أي
أنه رجوع إلى جذور الذات، وليس رجوعا واعيا بأنه يمارس التعقل من خلال التاريخ.
لا يستطيع أكثر المفكرين المعاصرين تعصبا ونرجسية، أن ينكر، أو حتى
يتجاهل، حقيقة أن الأفق المعاصر للوعي، هو أفق غربي بامتياز، وأن الغرب
كان - ولا يزال- هو مصدر النظريات المعرفية المعتمدة، وصانع الأسئلة
الكبرى، ومقرر مسارات المعاصرة. بينما بقية العالم من حوله - بما فيه
العالم الشرقي المتقدم في سياق التقانة - يبقى متمحورا حوله، متطلعا إلى
آفاقه التي لم تتخلق بعد، بوصفها المستقبل الذي يصنع التاريخ.
هذا العالم الغربي الذي يمثل الاستنارة في أبهى صورها الممكنة حتى
الآن، هو - في الوقت نفسه - الوجود المادي المتعين للتصورات العقلانية
التي صنعها العقل في رحلته الممتدة لأكثر من أربعة قرون. انتصارات العقل،
وإحداثيات الواقع التي تستجيب له، وتدعمه في آن، هي الجدلية التي خلقت
العقلانية الغربية، منذ التنوير ، وإلى أزمنة ما بعد التنوير، في صورتها
التي هي عليه الآن. لم يخرج العقل المستنير من فراغ، لم يخلق هكذا ابتداء،
وإنما خرج من رحم الظلام، متوقدا بصراعه مع قوى الظلام.
لكن، إذا كان صراعه مع قوى الظلام، هو الذي صنع هويته من خلال النقيض،
فهل يستطيع هذا الظلام الحالك، أن يوجد مكونات هذا العقل المستنير الذي
سيبدد ظلمته فيما بعد؟. طبعا لا، فلا بد من أن تأتي مكونات هذا العقل من
عالم آخر، من زمن مغاير، زمن كان للعقل فيه مكان، وللتعقل فيه إمكان. وكان
الزمن الإغريقي، هو الجذوة المقدسة التي اسطلى بها هذا العقل، حتى أوقد
شموع المعرفة للإنسانية جمعاء.
يرى بعض الباحثين أن الرجوع الأوروبي، في أواخر القرون الوسطى، إلى
الزمن الإغريقي خاصة ؛ كان بسبب الاتصال التاريخي، الذي يربط التاريخ
الأوروبي بتاريخ الإغريق، أي أنه رجوع إلى جذور الذات، وليس رجوعا واعيا
بأنه يمارس التعقل من خلال التاريخ. ومع أن هذا فيه الكثير من الصحة، إلا
أنه يتجاهل المستوى (النوعي) من التفكير، ذلك المستوى الذي شكّل إغراء لكل
من تماس معه، حتى ولو لم يكن هو إياه في سياق تاريخي واحد، بل حتى وإن
كانت البنية الذهنية في تناقض عميق معه.
لقد أصبح من بديهيات تاريخ الفكر، أن الثقافة الإغريقية انطوت على
مستوى نوعي من التفكير. فالإغريق هم أول من استخدم العقل بطريقة منظمة،
وهم أول من اهتم بنسج النظريات العامة، التي تعالج الإشكاليات الكبرى. كما
أن تراثهم يتضمن كثيرا من المقدمات التي قامت عليها العلوم الفلسفية
والنقدية والسياسية والنفسية والاجتماعية. إنها بذور لا يستهان بها، تم
وضعها في سياق نظري، يدل على أنها لم تكن مجرد خواطر عابر، وإنما اشتغال
عقلي واعٍ بكنه ممارسته. وهذا هو أساس العلم.
هذا التاريخ - وليس غيره - هو الذي رجع إليه الأوروبيون، بداية من
القرن الثاني عشر الميلادي، في رحلة انبعاث العقل، بعد أن طمرته القرون
الوسطى التي امتدت لألف عام، بداية من القرن الخامس الميلادي، وحتى القرن
الخامس عشر. ألف عام، ليست كتلة صامتة من الظلام، ولكنها - في مجمل سياقها
- ضمور شديد في مكانة العقل، يقابلها تعزيز أعمى لليقينيات الماورائية،
وتوظيف للخرافة، إلى درجة اعتبارها علما!.
لم تنته هذه القرون المظلمة بين عشية وضحاها، وإنما احتاج التخلص منها
أكثر من ثلاثة قرون من الكفاح الفكري والعلمي. بل ربما كان التخلص التام
من هيمنتها، لم يتحقق إلا في نهاية القرن الثامن عشر، أي أن خمسة قرون أو
أكثر، امتدت من القرن الثاني عشر، إلى الثامن عشر، كانت ميدان الصراع
لتنصيب العقل المستنير، وتجفيف ما بقي من مستنقعات الظلام. وهذا يدل على
أن الحد التاريخي الفاصل، الذي تظهره عمليات التحقيب، لا وجود له، وإنما
هو مسألة نسبية تطرح للتوضيح ؛ لأنه لا يوجد حدث واحد، ولا قرار واحد،
يمكن أن ينقل الوعي من عالم الخرافة إلى عالم العقل.
طبعا، وكما يعرف الجميع، كانت العصور المظلمة، هي عصور هيمنة الكنيسة،
وتحكمها في مجالي السلطة: الروحي والزمني. كان الوعي بمجمله دينيا، والعقل
غائبا ومغيبا. لكن، الكنيسة، لم تزعم يوما أنها ضد العقل، ولا انها تعادي
العلم صراحة، فهذا لو حدث، كان كفيلا بزعزعة الثقة فيها. كان للكنيسة عقل،
ولكنه رهن الاعتقال. عقل الكنيسة فيه كل المواصفات، إلا صفة التفكير
والنقد والفحص والمساءلة. كان عقلا يتدروش على المنقول، يبرر، ويعزز،
ويكرر، ويدعم اليقين والجمود.
القديس أوغسطين، بما هو روماني بثقافة إغريقية، زاوج بين المبادئ
المسيحية، والعقل اليوناني، في بدايات القرن الخامس الميلادي. حاول إنتاج
ما يمكن أن يسمى: معقولية الدين. ولهذا اعتبر - بحق - من المؤسسين الكبار
للمسيحية ؛ إذ أصبحت بفضله تمتلك الأطر النظرية التي تحجب التناقض الصريح،
وتعقلن الخرافة الصارخة!. وهذا العمل التلفيقي، لا شك أنه سيقنع البسطاء
والسذج، بأن ما ليس معقولا في تراثهم الديني، أصبح معقولا، فقد درأ تعارض
العقل والنقل، وأقام الصلح بين بينهما ؛ فأصبح المنقول الصحيح موافقا
للمعقول الصريح.
إذن، ليس هذا عقلا مجردا، وإنما هو عقل تم وضعه لخدمة المسيحية التي
يتوسل بها الكثير إلى منافذ سلطوية، ومكاسب دنيوية، في غاية الابتذال.
وحتى ما قام به القديس تما الأكويني في القرن الثالث عشر، من دمج الفلسفة
الأرسطية بالمسيحية، لم يكن تعقيلا حقيقيا للمسيحية، ولكنه كان تديينا
للعقل. لم تربح - حقيقة - المسيحية، ولكن خسر أرسطو، ومن ورائه العقل.
فيما فعله هذان القديسان، لم يكن هناك عقل فاعل، وإنما هناك عقل معتقل
بتفاصيل التهويمات الكنسية. هذا العقل استحال من ممارسة ذات فاعلية
متجددة، إلى آلية جدلية، مهمتها الدفاع عن النتائج اليقينية الإيمانية
المحددة سلفا. العقل هنا، عقل لا ينتج، ولا يخترع، ولا يبحث، ولا يتساءل،
وإنما يحفظ، ويبلغ، ويقرر، ويثبت، ويؤكد، ويشرح.
واضح جدا، أن مثل هذا العقل الذي امتهن نفسه في خدمة الخرافة لم يعد
عقلا محررا للإنسان، وإنما هو عقل أسطوري، يتم تقييد الإنسان فيه، ومنعه
من ممارسة حرية التفكير. وطبيعي أن يساعد مثل هذا العقل على امتهان
الإنسان، ويبرر القمع، ومصادرة الحريات، واضطهاد المفكرين، ويدعم نشر
الخرافة والدجل باسم الدين.
بداية من عصور الظلام في القرن الخامس، لم يعد مسموحا لأحد بمناقشة
مسائل الدين المسيحي، ولا أن يرتاب في الحق المقدس لرجال الدين. وساعد على
هذا، أن المؤسسات الكنسية ترسخت وتجذرت في الواقع، وأصبحت لها مصالحها
التي ترعاها، والتي تتضخم يوما بعد يوم. وكلما ازداد نفوذ الكنيسة، وتوسعت
علاقاتها مع القوى المهيمنة، زاد قمعها، وضاقت صدور رجال الدين بكل من
يخترع لنفسه طريقا غير طريقهم، أو يشتغل بعلوم ليست من علومهم.
كان على الإنسان الذي يريد أن يبحث لنفسه عن مكانة ما، أن يحوز ابتداء
على رضا رجال الدين، وان يقدم لهم الولاء الضمني أو الصريح، الذي يؤكد فيه
أنه الخادم المطيع لهم، في كل صغيرة وكبيرة من شأنه. وهو إذ يفعل ذلك،
يدرك أنه لا وجود له - اجتماعيا - دون هذا الرضا، ولا قيمة لما يقوم به -
في اعتقاده - دون هذه المباركة التي تحقق له خيري الدنيا والآخرة!.
يزداد الأمر سوءا ومأساوية ؛ عندما يكون الإنسان المسيحي في عصور
الظلام من رجال الفكر أو الأدب. ذلك أن الاشتغال في الحق المعرفي أو
الأدبي، يعني أن هناك اشتباكا مع المعاني بالضرورة. والإنسان لا يفكر في
فراغ، وإنما في سياق ما هو فيه. وهذا يعني خطورة أن يحاول أحد ما، إنتاج
المعنى المستقل، أي أن يحاول استخدام عقله خارج نطاق الوصاية المفروضة على
الجميع، وعلى رجال الفكر والأدب خاصة.