(طابع
بريد تونسي أصدر بالمناسبة)
عبد
الرحمان بن محمد بن خلدون الحضرمي (732 – 808 هـ) ولد في تونس من اصل
أندلسي إشبيلي تلقى العلم على عدد من علمائها ورحل الى فاس ثم مصر ودرس في
الأزهر ثم الى دمشق . عمل في السياسة وتولى منصب قاضي قضاة المالكية بمصر
وتوفي فيها . له تصانيف عدة تدل على سعة علمه .
اشتهر ابن
خلدون بمقدمته التي هي جزء من كتابه الضخم الذي ألفه في التاريخ العام
وسماه: »كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر
ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر«، وهذا الكتاب يشمل المقدمة ومعها:
1-
الكتاب الأول: في العمران وطبيعته. 2-
الكتاب الثاني: ويشتمل على أخبار العرب وأجيالهم 3-
أما الكتاب الثالث: فيعرض لنا أخبار البربر ومن يليهم. وقد عالج
ابن خلدون واقعات العمران البشري، التي تشمل كل القواعد في الاتجاهات
العامة التي يسلكها أفراد المجتمع في تنظيم شؤونهم الجماعية، وضبط العلاقات
وتنسيقها »الظواهر الاجتماعية«.
دراسة
الظواهر الاجتماعية
وبذلك يكون ابن خلدون قد درس الظواهر الاجتماعية، وكشف
القوانين التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية، سواء في نشأتها في تطورها.
فرغم أن كثيراً من العلماء قبله تعرضوا للمجتمعات، فإنهم
اكتفوا بوصفها، وبيان ما كانت عليه وما هي عليه الآن، ولم يستخلصوا لنا
قوانين تفسر لنا العوامل والأسباب التي قادت الظاهرة لأن تسير على شكل من
الأشكال. وهناك من درس الظواهر الاجتماعية أيضاً وبيّن ما يجب أن تكون عليه
حسب مبادئ مثالية أبعد ما تكون عن الواقع.
أجل، إن التفكير في المجتمع قديم قدم الإنسانية، وقد تعرض كثير
من الفلاسفة إلى دراسة مجتمعاتهم، فرسموا لنا نماذج لمجتمعات فاضلة ارتضاها
كل واحد منهم، وبيّنوا ما ينبغي أن تكون عليه المجتمعات. ولكن ابن خلدون
درس الظواهر الاجتماعية التي تتحكم في مصيرها، وبيّن أنها تسير حسب قوانين
ثابتة.
وقد قرر ابن خلدون بأن دراسة ظواهر الاجتماع على هذا النحو لم
يسبقه إليها أحد فقال: »واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة
غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص«. أخضع
الظواهر الاجتماعية للقوانين
فابن خلدون إذ يخضع الظواهر الاجتماعية للقوانين، فهو يبحث عن
مدى الارتباط بين الأسباب والمسببات، ولم يكتف بالوصف وعرض الوقائع وبيان
ما هي عليه، وإنما اتجه اتجاهاً جديداً في بحوثه الاجتماعية، جعله يعلن
بصراحة أن التطور هو سنة الحياة الاجتماعية، وذلك لأن الظواهر الاجتماعية
غير قابلة للركود والدوام على حالة واحدة، ومن ثَمّ كانت الأنظمة
الاجتماعية متباينة حسب المكان والزمان: »إن أحوال العالم والأمم
وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على
الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص
والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول«.
فإذا كانت العلوم الرياضية وما شابهها تعالج أموراً مستقرة،
فعلم الاجتماع يعالج مواضيع تختلف من جيل إلى جيل، ومن منطقة إلى أخرى.
لذلك يرى ابن خلدون أنه يتحتم على الباحث الاجتماعي أن يبحث عن هذا
الاختلاف، متخذاً الحذر والحيطة حتى لا ينساق وراء الخيال والمغالطات.
وقد اعتمد ابن خلدون في بحوثه على ما لاحظه في الشعوب التي
عاصرها، واحتك بها ووازن بينها وبين سابقيها، ودرس العلاقات الاجتماعية،
وذلك بأن جمع معلوماته من التاريخ، ثم أخضعها للعقل، ومن هنا تتجلى أصالته
المنهجية. ولا أدلّ على ذلك من كونه يقرر أن العصبية نوع خاص من القرابة
داخل ترابط مجتمعي.
المنهج
الاستقراري عند ابن خلدون
ابن لابن خلدون منهجاً استقرائياً استنتاجياً، يعتمد فيه على
الملاحظة، ثم الدخول في الموضوع، وبدون فكرة مبيتة، لذلك جاءت قوانينه أقوى
أساساً، وأمتن بنياناً، وأقرب إلى وقائع الأمور.
وهكذا سار على منهج علمي سليم، وإن كان استقراؤه ناقصاً بعض
الشيء، لأن كثيراً من القوانين والأفكار التي وصل إليها لا تطبق إلا على
أمم عاصرها في فترة معينة.
سبق
مالتوس إلى نظرية تزايد السكان
ومن العجيب أن هذا الباحث الاقتصادي الإسلامي قد تحدث في
المقدمة عن القوانين التي يسير عليها التزايد في النوع الإنساني، وبذلك سبق
»مالتوس« الإنجليزي في نظريته التي اشتهر بها، وهي نظرية »تزايد السكان«.
ومالتوس من علماء الاقتصاد الإنجليزي، ولد سنة 1766م وتوفي سنة 1842م،
ويعدّ من المنشئين لعلم »الديموغرافيا« أو علم إحصاء السكان، وهو من العلوم
الاقتصادية. وقد وضع مالتوس في ذلك كتاباً أسماه »تزايد السكان«
وظهر هذا الكتاب سنة 1803م.
واستخلص مالتوس من دراساته لظاهرة التزايد في النوع الإنساني
أن السكان يتزايدون كل خمس وعشرين سنة بنسبة متوالية هندسية (1، 2، 4، 8،
16، 32...)، إذا لم يوقف تزايدهم عائق خارجي.
وابن خلدون الذي كان قبل مالتوس بأكثر من أربعمائة سنة قد تعرض
لهذا النظرية، وإن لم يعن بتفصيل الحديث عن أجزائها، ووضع قانوناً محدداً
لها، كما فعل مالتوس. أبحاث
في مواضيع اقتصادية...
وتحدّث في المقدمة عن الفلاحة والنباء والتجارة والحياكة
والخياطة والوراقة وغيرها، وقد لخص كتاب تاريخ فلاسفة الإسلام المواضيع
التي طرقها في مقدمته، فقال عن الفصل الخامس: »الفصل
الخامس في المعايش ووجوهه من الكسب والصناعات، وفيه مسائل في الرزق والكسب،
وفي المعاش وأصنافه ومذاهبه، ونسبة ذلك إلى طبيعة العمران، وفيه مباحث
مسهبة في أبواب الرزق من التجارة والصناعة على اختلاف ضروبها وأنواعها«،
ووصفَ أمهات الصناعات في أيامه، كالزراعة والعمارة والنسيج والتوليد والطب
والورق وغيره.
وباختصار، فإن عبد الرحمن بن خلدون الباحث الاجتماعي
والاقتصادي والسياسي سيظل في نظر الباحثين حجة في كل ما يتعلق بالحياة
الاجتماعية والاقتصادية، وستظل نظرياته الواردة في مقدمته صالحة للاستفادة
منها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. 0مكانته
العلمية
قام ابن خلدون بدراسة تحليلية لتاريخ العرب والدول الإسلامية،
وعرض محتويات الأحداث التاريخية على معيار العقل حتى تسلم من الكذب
والتزييف، فكان بذلك مجدداً في علم التاريخ.