وإذا كان مالك بن نبي قد امتلك زمام التعريف الحضاري بمعظم جوانب العطاء الإسلامي للحضارة البشرية ، فإنني أرى أن الآثار التي خلفها لنا هذا المفكر الإسلامي هي بعض الزاد الحضاري الإسلامي الذي يمكن للمسلمين اليوم أن يطرحوه أمام العالم ، فالأفكار التي طرحها مالك بن نبي أفكار ناضجة في ميادين العلاقات الدولية والنظم السياسية والفكرية والثقافية والتربوية والتنموية مما تحتاجه المجتمعات البشرية الحديثة .
ولقد قدّم الأستاذ مالك بن نبي الأنظمة الإسلامية في قالب حضاري وأسلوب معاصر كما تمكن من تجزئة الاحتياجات الحضارية للمجتمعات البشرية حيث فصلها وطرح البديل الإسلامي مقارناً مع النظم الإنسانية الوضعية ، فكان بهذا الأسلوب صاحب مدرسة مقارناً مع النظم الإنسانية الوضعية ، فكان بهذا الأسلوب صاحب مدرسة نقلت في العالم جوهر الإسلام وبدائله التي تتقزم أمامها كل النظريات البشرية الوضعية ، الأمر الذي رسخ الاعتزام بالإسلام وحلوله في نفوس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وحصن أفكارهم التي كانت في مطلع هذا القرن تستهل قبول الفكر التغريبي المادي الذي سيطر فترة من الزمن على بعض العقول .
شهادة بحقه :يقول الاستاذ الكبير أنور الجندي : (
فقد العالم الإسلامي واحداً من أعلام الفكر الإسلامي الحديث هو الأستاذ مالك بن نبي المفكر الجزائري الذي قدم في السنوات الأخيرة عدداً من المؤلفات البارعة حول موضوع (الإسلام ومواجهة الحضارة) فهو موضوعه الأول وقضيته الكبرى التي حاول منذ أكثر من عشرين عاماً أن يقدم فيها وجهة نظر جديدة نابعة من مفهوم الإسلام نفسه ومرتبطة بالعصر في محاولة لإخراج المسلمين والفكر الإسلامي من احتواء الفكر الغربي وسيطرته وكسر هذا القيد الضاغط الذي يجعل الفكر الإسلامي يدور في الدائرة المغلقة التي نقله إليها اجتياح التغريب والغزو الثقافي لقيمه عن طريق المدرسة والثقافة والصحافة وفي محاولة لدفع المسلمين إلى التماس مفهومهم الأصيل والتحرك من خلال دائرتهم المرنة الجامعة القائمة على التكامل والوسطية والمستمدة لقيامها الأساسية من القرآن .
والجديد في دراسات مالك بن نبي ورسالته بالنسبة لمدرسة اليقظة الإسلامية المتصلة بالعرى منذ نادي الإمام محمد بن عبد الوهاب بأول صوت عال كريم في سبيل إيقاظ المسلمين على كلمة التوحيد في العصر الحديث ثم تتابعت الحلقات في دعوات متعددة قام بها الإمام محمد بن علي السنوسي ومحمد بن أحمد المهدي وجمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وغيرهم .
هذا والجديد أن حامل لواء هذه الفكرة رجل ولد في أول هذا القرن في الجزائر ، المحتلة بالاستعمار الفرنسي وقد ولد في قسنطينة التي خرجت الإمام عبد الحميد بن باديس ، وشهد في مطالع حياته ذلك الجو القاتم المظلم الذي حاول الاستعمار فيه أن يخرج الجزائر من الإسلام ومن اللغة العربية جميعاً ، وقد كانت له جذوره التي استمدها من بيئة مسلمة أصيلة حافظت على تراثها واستطاعت أن تعتصم بالقرآن ، فلما أن أتيح له أن يتم تعليمه أوفد إلى باريس ليدرس الهندسة في جامعتها ، فلم يصرفه ذلك عن معتقده وإيمانه فكان مثلاً للصمود في وجه اجتياح التغريب ومحاولة الاحتواء التي سيطرت على الكثيرين من أبناء المسلمين الذي أتيحت لهم الدراسة في الغرب ، فلما أن أتم دراسته وأحرز شهادته وجد الأبواب كلها قد أغلقت أمامه ، وأحس أن تصميمه على تمسكه بمعتقده سيحول بينه وبين الوصول إلى مكانته كمهندس وعالم ، فلم يثنه ذلك شيئاً وواجه الموقف في إيمان ورضا بكل شيء في سبيل أن لا تجتاحه الأهواء المضلة ، ولقد حاول الاستعمال معه كل محاولة من إغراء وتهديد حتى عزل والده في الجزائر عن عمليه واضطر مالك بن نبي أن يترك بيئته كلها وقد اتفاضت بدعوة ابن باديس ولجأ إلى مكة المكرمة فأقام بها ثم قدم القاهرة فأخرج فيها موسوعة عن الحضارة في أكر من سعبة عشر كتاباً كان يكتبها بالفرنسية ويترجمها الدكتور عبد الصبور شاهين إلى العربية ثم لم يلبث بعد أن توسعت اجتماعاته بالمسلمين في مكة والقاهرة أن حذق العربية وبدأ يكتب بها رأساً وكشف ن تلك الأزمة العاصفة التي تواجه المؤمنين الثابتين على عقائدهم في وجه الإغراء .
وقد قامت نظرة مالك بن نبي على مفهوم أسماه (القابلية للاستعمار) وقد دعا المسلمين إلى التحرز من هذا الخطر وذلك بالعودة إلى الاستمداد من مفهوم الإسلام الأصيل المحرر بالتوحيد عن وثنية العصر وماديته .. انتهى .
ندوة عن أفكاره :وقد أقيمت ندوة دولية في ماليزيا سنة 1991م عن فكر مالك بن نبي وأطروحاته تحدث فيها كل من : أنور إبراهيم وزير المالية الماليزي والدكتور عبد الله عمر نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ونوقشت فيه أوراق عمل لكل من : أسماء رشيد من باكستان عن مقارنة الفكر الاقتصادي لدى كل من العلامة محمد إقبال خاصة كتاب (علم الاقتصاد) ومالك بن نبي خاصة كتابه (المسلم في عالم الاقتصاد) والورقة الثانية للدكتور عمار الطالبي من الجزائر وموضوعها (فكر مالك بن نبي وعلاقته بالمجتمع الإسلامي المعاصر) والورقة الثالثة للدكتور ظفر إسحاق الأنصاري من باكستان وموضوعها (رؤية مالك بن نبي وتقويمه للتيارات الفكرية والسياسية المختلفة التي تكمن وراء الأوضاع الراهنة في العالم الإسلامي) .
أما الورقة الرابعة فهي للبروفيسور محمد كمال حسن من ماليزيا وموضوعها (تأملات حول بعضها أفكار وأطروحات مالك بن نبي) .
أما الدكتور عبد الصبور شاهين أبرز من ترجموا مؤلفات مالك بن نبي من الفرنسية إلى العربية فقد قال : إن حياة مالك بن نبي ككاتب ومفكر عرفت طورين رئيسيين : طور ما قبل مصر ، حيث كان يعيش ما بين بلاده الجزائر ، وفرنسا التي تعلم فيها ، والطور الثاني يبتدئ بقدومه إلى القاهرة سنة 1956م ، حيث ابتدأت رحلته كمفكر إسلامي نتيجة احتكاكه برجال العلم والفكر الإسلامي ، وبدأ يتعرف على مصادر الثقافة الإسلامية الأصلية .
كما كانت صلته الطيبة برجال الحكم بمصر آنذاك مجالاً متنفساً للكتاب الإسلامي في ذلك الوقت حيث أن السلطات الثورية ، كانت قد ضربت حصاراً على الكتاب الإسلامي إبان حملتها الشرسة على الحركة الإسلامية. مضيفاً أنه في هذا الإطار كان يسرب كل ما يترجمه لمالك بن نبي إلى الشهيد سيد قطب داخل السجن .
إن مالك بن نبي – رحمه الله – كان أحد عمالقة الفكر الإسلامي في هذا العصر ، وقد قدم الفكرة الإسلامية ، وأحسن عرضها على جماهير الأمة الإسلامية خاصة شبابها الذي ترك فيهم الآثار الطيبة .
ومهما كان في هذه الأفكار من ملاحظات فهي بمجموعها تشكل رافداً من روافد الفكر الإسلامي المعاصر يمد الشباب بالزاد الفكري الذي يقف في وجه الأفكار المستوردة من الشرق والغرب على حد سواء .
رحم الله الأستاذ مالك بن نبي وجزاه الله عما قدم خير الجزاء .
من كتاب من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة – المستشار : عبد الله العقيل