أثناء الثورة التحريرية المباركة:•
عاد إلى المغير وسط جو من الحماس الوطني، الذي أخذ تياره يسري عبر كامل
أنحاء الوطن، ولما استقر به المقام مرة أخرى في مسقط رأسه، اتصل
بالمجاهدين في بيت الشهيد "سي عمار شهرة" بواسطة أحد الإخوان، هنالك التقى
برجلين كريمين هما:" عميرة قرندي" و"ابن القطاري"، ومما يذكره من الحوار
الذي دار بينه وبين "ابن القطاري" الذي التقى به كواسطة بينه وبين نظام
الثورة: " إن هذا الذي نقوم به نحن إنما هو من أجلكم أنتم شبان الجزائر
المثقّفين، لأنكم أنتم مستقبلها الزاهر". وكان هذا الكلام الذي سمعه، قد
زاد في قوة إيمانه بالثورة الجزائرية، وثقته في انتصارها، مادام هؤلاء
المجاهدون يحملون هذه الآمال العريضة عن الثورة في المستقبل.
•
في هذه الأثناء كان يعلّم متطوعا في مدرسة المغير الحرة، مساعدا لمعلم
المدرسة الشيخ: الأزهري ثابت، والشيخ إبراهيم قسوم، والشيخ موسى بالراشد.
• يذكر أن ما بقي عالقا بذهنه حتى الآن عما كان يدرّسه لتلامذة مدرسة المغير، قصيدة للشاعر الفلسطيني: "إبراهيم طوقان"، ومنها:
كفكف دموعك ليس ينفعك البكاء ولا العويل
وانهض ولا تشْك الزمان فما شكا إلا الكسول
واسلك بهمّتك السبيل ولا تقل كيف السبيل؟
ماضلّ ذو أمل سعى يوما، وحكمته الدليل
كلاّ ولا خاب امرؤ يوما ومقصده نبيل
---------
أفنيتَ يامسكين عمرك في التأوّه والحزن
وقعدت مكتوف اليدين، تقول حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنت، فمن يقوم به إذن؟
وطن يباع ويشترى، وتصيح فليحيا الوطن
لو كنت تندب حظه لبذلت من دمك الثمن
ولقمت تبني عزه، لو كنت من أهل الفطن
ويشير
الدكتور أن بعض سكان المغير، لا يزالون حتى الآن يحفظون مثل هذه القصائد
الرائعة، ويرددون بعض أبياتها، كلما ساورهم طيف من ارتياد ذلك الماضي
المجيد. وهي قصائد تحثّ الشباب على خوض غمار الكفاح المسلح دفاعا عن الوطن
المحتل، وتدعوه إلى اليقظة والنهوض من السبات العميق، الذي طالما غيّب
الضمير الوطني والعقل العربي في ظل الوجود الاستعماري البغيض .
•
بعد أشهر من اندلاع الثورة، غادر بلدة المغير إلى الجزائر العاصمة، وكان
ذلك في شهر مارس من سنة 1955م، ولم يكن له فيها قريب أو صديق، سوى أحد
معارفه وهو " محمد العايز"، الذي تحول بعد ذلك إلى صديق حميم له.
•
بعد فترة قضاها في العاصمة، اتصل بمركز جمعية العلماء، حيث التقى بزملاء
الدراسة البادسيين مثل:" عبد السلام برجان" الذي أصبح فيما بعد ضابطا في
جيش التحرير الوطني، و"صالح نور" الذي أصبح فيما بعد رئيس محكمة الثورة في
الجزائر العاصمة، كما اتصل بالشهيد " البشير بن رابح" الذي عرّفه بالمجاهد
الشهيد "محمد الصغير الأخضري"، الذي أصبح فيما بعد الرائد "سي المختار".
•
رُبطت بينه وبين "نور صالح" صلة تكوين مناضلين، في سلك التعليم العربي
الحر، بواسطة المناضل" سي الزبير الثعالبي" الذي كان زميلا لي بالمعهد
الباديسي، وأصبح يدير مدرسة الناصرية بحي مناخ فرنسا ببوزريعة.
• في
الوقت نفسه كوّن علاقة مع نادي "حزب الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري"
المقابل لمسجد كتشاوة، حيث كان يعلّم العربية للشباب بالليل، فتعرف هناك
على بعض الإخوة ومنهم " أحمد قايد" و "فرحات بالأمان"، الذي أصبح بعد
الاستقلال أول رئيس لبلدية الجزائر الكبرى، و"عمي بوخالفة" الذي كان يشرف
على النادي.
• تحصل على منصب
معلم، في "مدرسة السنية" ببئر مراد رايس، وفي "نادي البيان" ربط أيضا صلة
ثورية هامة مع الولاية الأولى، بواسطة زميل كان يدرس معه في معهد عبد
الحميد بن باديس، وهو من الأوراس ذهب إلى العاصمة بهدف الحصول على اللباس
العسكري لجنود جيش التحرير الوطني.
•
عاد إلى بئر مراد رايس ... حيث كون صلات النضال المختلفة، ففي مدرسة
السنية توطدت العلاقة بينه وبين "محمد الصغير السائحي"، وبدأ بجمع المال
من المعلمين الأحرار ضمن خليته، وقام بزيارة المدارس العربية الحرة لهذا
الغرض . وفي بئر مراد رايس أيضا تعرف على أبرز مجاهدي المنطقة من أمثال:
"سي أرزقي عياش" والشهيد " سي العربي سعادة"، كما اتصل بالأستاذ " أحمد
توفيق المدني" الذي كان يشرف على جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء
المسلمين.
• وبعد إضراب الثمانية أيام انتقل إلى "مدرسة الهداية" في
العناصر بالقبة، حين قاطع التلاميذ الجزائريون المدرسة الفرنسية، وامتلأت
بهم المدرسة العربية بالعناصر.
•
ذات ليلة وعبد الرزاق في المدرسة يعلم التلاميذ هو ورفاقه، فإذا
بالمظليين يقتحمون المدرسة، وإذ بهم يعثرون بحوزته على مراسلة له، كان
ينوي بعثها لصديق في الكويت، بها عبارات فهموا منها أنه قياديّ في جبهة
التحرير الوطني. لكن وبلطف من الله بقي وزملاؤه أحياء بعد إعدام جميع
الذين اقتيدوا إلى الساحة التي كانوا قد جمّعوهم فيها. أيام قليلة بعد
الحادثة، أعادوا إخراجه مرة أخرى ومَن معه مِن معلمي المدرسة بالقوة،
فاقتادوهم جميعا إلى مقر بلدية القبة الآن، وهناك أذاقوهم ألوانا شتى من
العذاب، مازال يحمل آثار ذلك إلى اليوم.
•
عاد بعد هذه الحادثة إلى مسقط رأسه بالمغير، هناك وجد جوا نضاليا آخر.
ولما وصل وجد المسؤولين هنالك قد قرروا إلحاقه بصفوف جيش التحرير الوطني
بالجبل، وإذا هم كذلك فإذا بالملازم "سي عبد السلام مباركية" يصل من
الولاية الأولى إلى المغير في زيارة تفقدية، فطلب من مسؤول المنطقة تزويده
ببعض المتطوعين، فكان من الذين اختيروا لهذه المهمة.
•
لما اتصل بالضابط عبد السلام، وبعد الاتفاق على المهمة الثورية الجديدة،
اكتشف أنه كان زميلا له بمعهد قسنطينة، فقضوا أياما وليالي متنقلين بين
مختلف المنازل بمنطقة المغير، وخاصة أبناء "سي الحاج عبد القادر الزغيدي"،
الذي كانوا يقضون نهارهم في بيته، وليلهم في "سبالة " المعمّر الفرنسي
"ميتي" "Mity" مع باقي الجنود والفدائيين المحليين.
• وبأمر من
الملازم عبد السلام، بقي وزملاؤه في المغير منشغلين بالتعليم، إضافة إلى
العمل المدني في الثورة، قائلا:" ابقوا هنا حتى نحتاج إليكم فنبعث في
طلبكم".
• وبعد شهور قلائل
مضت عليهم بالمغير في انتظار موسم السنة الدراسية 1957م، أُمر بالذهاب إلى
العاصمة لشراء الأدوات المدرسية استعدادا للافتتاح. وبينما كان يستعد
للعودة إلى المغير، سمع باقتحام الجيش الاستعماري لقريتهم و بالتّبع
بيتهم. هكذا استولى الاستعمار على كل ما يملك والده من أثاث البيت ومتاع
الحياة فيه، والمهم فيما ضاع كله،تلك الكتب التي كانت ملكا للعائلة،
لاسيما إذا علم المرء أن الحصول على مثل تلك المصنّفات العلمية لم يكن
أمرا ميسورا بالطريقة التي نحصل بها مثل ما هو متيسّر اليوم، سواء من حيث
الكم أو الكيف، كان ذلك يوم 11 أكتوبر 1957م، فنُصح بعدم العودة إلى
المغير، لالتحاق الوالد بالجبل في صفوف جيش التحرير الوطني، أما إخوته
فأحدهم حذا حذو والده، وآخران قبضت عليهما السلطات الاستعمارية.
•
بقي في الجزائر يتابع تطور الموقف في المغير، وأعدّ لتنظيم مسيرة حياته
من جديد، فانضمّ مرة أخرى إلى مدرسة السنية ببئر مراد رايس، وعاود الاتصال
بالنظام لاستئناف نضاله من جديد، ومع أن الوضع قد تغير بالعاصمة بعد إضراب
الثمانية أيام، وبغياب المسؤولين الذين كان على اتصال بهم من قبل، عاد إلى
مهمته النضالية بعد الاتصال بالمجاهد " الزبير الثعالبي". واندمج في سلك
النضال، يجمع الأموال ويوزعها على أبناء المساجين والمجاهدين، إلى جانب
القيام بمهمة التدريس في المدرسة.
•
وكان مسئولو الثورة في حي بئر مراد رايس يثقون فيه كل الثقة، وكان عمله
مع النضال يمر عن طريق المجاهد "سي يحي-أحمد زيغم-" أطال الله عمره، فكان
يأتيه إلى المدرسة أثناء فترة الاستراحة، ليتحاورا في كل ما يتّصل
بالنظام، ويكتب له الرسائل الموجهة إلى أصحابها، أو يُطلعه على المناشير
الجديدة، أو يطلب منه أن يتّصل ببعض المناضلين على أنهم أولياء التلاميذ.
•
وأثناء تدريسه بهذه المدرسة أصدر مجلة حائطية مدرسية، بمعية أحد زملائه
وهو "محمد منيع" -مدير مدرسة تيليملي-، ولكن هذه المجلة الحائطية لم تدم
طويلا، لأن وسائل الطباعة كانت صعبة، ولأن زميله المذكور قد اعتقل.
•
وعلاوة على تلك المهام التربوية والنظامية في الثورة، فقد نظم هو وزميله
امتحان الشهادة الابتدائية العربية في مدرسة تيليملي، في الوقت الذي نظّم
فيه امتحان آخر لهذه الشهادة في "مدرسة التهذيب" بالعين الباردة، والتي
كان يشرف عليها "محمد الحسن فضلاء".
•
في شهر جويلية 1959م، تقدم لامتحان الشهادة الابتدائية عدد من التلاميذ
والتلميذات لمدرسة تيليملي، وكانت اللجنة المشرفة على الامتحان تتكون من
الأساتذة: عبد الرزاق قسوم، محمد منيع، حسين قوايمية. وقد كُلف عبد الرزاق
قسوم بوضع أسئلة اختبار تلك الشهادة.